سياسة الأجور واسعة ومعقّدة
الدكتور إيلي يشوعي - النهار-
الخميس, 13 تشرين1/أكتوير 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
علاقة عضوية وفي الاتجاهين، تربط بين تطور الاجر وانتاجية العمل. فالمستوى الجيد للاجر يوفر الحوافز لدى الاجير ويدفع في اتجاه زيادة الانتاجية بما يتيح للمؤسسة زيادة اجور عمالها من دون المس بالأسعار النهائية لسلعها وخدماتها. انتاجية العمل تقيس على المدى القصير، تطور نسبة القيمة المضافة المحققة داخل المؤسسة الى الاجور المدفوعة وملحقاتها وعطاءاتها. فإذا جاء ايجابياً، تحققت انتاجية العمل وسمحت بزيادة حقيقية للاجر.
القيمة المضافة التي تحققها الشركات اي الفارق بين قيم الانتاج ومدخلاته التقنية، تكافئ رأس المال والعمل، فتنقسم بين توزيع الارباح على المساهمين ودفع الاجور. وبقدر ما يكون التوزيع عادلاً يخيم جو من التفاهم في الداخل. اما اذا انحاز التوزيع نحو مكافأة رأس المال على حساب العمل، تشنجت العلاقات وانفجرت الخلافات وعمت الاضطرابات والتوترات الاجتماعية. اذاً، تطور الاجر الحقيقي محكوم بتطور انتاجية العمل وارتفاع حجم الانتاج، والاجر الحقيقي اهم بكثير من الاجر الاسمي لانه يلحظ عند زيادته مؤشر اسعار الاستهلاك، ويعبّر عن قدرة الاجير على زيادة استهلاكه، وتحسين مستوى حياته. وبما ان الانتاجية تختلف من قطاع الى آخر، لا تتدخل الدول في مختلف شطور الاجور التي تترك للمفاوضات المباشرة بين اصحاب العمل والعمال، بل تتدخل فقط في تحديد الحد الادنى الذي يفترض ان يوفر للناس وخصوصاً المعدمين منهم، حياة تقع على درجة اعلى من خط الفقر. وتعادل نسبة زيادة الاجر عموماً نسبة زيادة الانتاجية على المدى الطويل، لان ما يسقط هذه العلاقة على المدى القصير، نفوذ الجمعيات المهنية واصحاب العمل.
ان تضييق مروحة الاجور في الاقتصاد افضل بكثير من توسيعها خدمة للعدالة الاجتماعية. ففي لبنان، غالبية الاجور الشهرية المدفوعة تراوح مقوّمة بالدولار بين 500 و1500 دولار مع نسبة للاجر الادنى الى الاجر الاعلى تقل عن 3,5%. كذلك تقل الاجور الشهرية للغالبية عن المتوسط الاجمالي البالغ نحو 1800 دولار شهرياً، والذي يمثل نسبة الكتلة الاجرية المدفوعة في القطاعين العام والخاص والمقدرة بـ15 مليار دولار سنوياً الى الناتج المحلي السنوي البالغ 40 مليار دولار. من جهة اخرى، يبلغ متوسط الدخل السنوي للفرد من الناتج 8880 دولارا، وهي نسبة قيمة الناتج. 40 مليار دولار الى عدد السكان 4,5 ملايين نسمة، اي 740 دولارا شهرياً يمثل نحو ضعفي الحد الادنى الحالي للاجر، مما يشير الى ان الحد الادنى اقل بكثير من المتوسط الاجمالي للدخل الشهري.
يجب ان تشكل الاجور حافزاً للاستثمار لا رادعاً له، كما ان رفعها يجب ان يسمح بزيادة استهلاك العائلات. ان الاستثمار في التربية والتدريب والتأهيل يقود الى مستويات جيدة لانتاجية العمل وتالياً للاجور. ولو كانت انتخابات مجلس النواب على الابواب، لكان الاهتمام الرسمي بمسألة تصحيح الاجور أسرع وأفعل، ولكان السياسيون طلبوا من المصارف تخصيص قروض خاصة للشركات بشروط مسهلة لتدفع كل المتأخرات المتعلقة بأجور عمالها وموظفيها وملحقاتها.
يجب ان يرتفع الحد الادنى للاجر في لبنان. لكن مثل هذا القرار لا يمكن اتخاذه من دون اجراءات رسمية مكملة تطول القطاعين العام والخاص وتخدم تصحيح الشطور الاخرى للاجور.
فرفع الحد الادنى من الدولة والتفاوض على بقية الشطور بين اصحاب العمل والعمال، يفترض اراحة الشركات ومساعدتها في تحسين ادائها ونتائجها المالية. فحمايتها جمركياً من مستوردات تأتي من دول يقل فيها الحد الادنى عما هو معتمد في لبنان ضرورية لحماية العمالة المحلية والامن الاجتماعي، علما ان منحها قروضا مصرفية ميسرة الفوائد، ضروري لتحديث وسائل انتاجها ورفع مستوى قيمها المضافة واجورها. اما القطاع العام الغارق في الديون والعجز، فهل يستطيع زيادة اجور موظفيه من دون ان يذهب الى الاستدانة مجددا؟ الجواب بديهي في ظل هيكليته الحاضرة. لذلك، لا بد من اعادة تعريف المهمة والدور للقطاع العام خصوصاً بمسألة ادارة الخدمات العامة التي بدا بوضوح فشله الذريع في ايجاد الحلول المناسبة لها رغم انفاق ضخم عليها خلال عقدين. من دور المخطط والمنفذ الى دور الوصاية والرقابة، هذه هي المهمة الجديدة التي نريد ان يضطلع بها القطاع العام. فالقطاع الخاص قادر بقدراته المالية والبشرية، ان يدرس ويستثمر وينفذ في ميادين الخدمات العامة (كهرباء ومياه ري ومياه شفة ونقل مشترك واتصالات ثابتة ومصافي نفط وصيانة طرق وادارة مستشفيات ومدارس رسمية وادارة ضمان اجتماعي) من دون تملك اي حصة منها.
يجب ان يرفع الحد الادنى للاجر لوقف توسّع الفقر، على ان تتمّ المفاوضات على الشطور الاخرى بالتزامن مع الاجراءات المكملة الضرورية لعدم ارهاق القطاعين العام والخاص باعباء مالية اضافية. سياسة الاجر ليست قراراً يتيماً تتخذه الحكومة، بل رؤية وادراك لتفرعاتها وتداخلاتها وتأثيراتها في احوال العائلات والمجتمعات والاقتصاد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق